الوقت لا يشير إلى ناحية الظهيرة، رغم ذلك، تجلد الشمس الملتهبة الرؤوس والأكتاف، وكما هو الحال كل مرة، أمر على مقاهٍ عدّة لكنني لا ألجأ إلا إلى مقهى نهاية الضاحية؛ يعج بالوجوه التي لا أعرف، لأنني أنتبه لوجود أحد دون التفات، لكل جسد وجه بالتأكيد ومنها ما يحمل قناعا انصهر على قسماته فكان كتلة مصمتة.
هذا المقهى يستهلك واردوه الصحف أكثر من القهوة أو الشاي، أناس بسطاء، لا أراهم ولكن حتما أراهم كذلك؛ لأن لا أحد قد لحظ هيئتي الباذة، ووجهي الذي أربده الزمان، ورمّد الزمان عينيّ.
حين انشغالي تحاول السلبية الرخوة أن تتسلل بين دقائق الوقت الفارغة من قراءاتي؛ حينما أكون في شبه غفوة وأنا نصف صاح أتأمل ترتيب السطور الذي ينتزعني من آلام الأذن الوسطى التي لا تسكن إلا بجرعةٍ مضاعفة من المهدئات...
لا يهم إن فقدت سمعي؛ أنا لا أهتم بتهافت الكلمات حولي، وأخبارا لا تعيد إلا ذكرى غائمة بعد النزوح.
كنت أقرأ متهجدا، لم أكن أسعى إلى الاقتراب من جوقة يصدح عنها كلمات وطنية تذكرني باللجوء الأول إلى أرضٍ لم تحملني إلا لتُضاء طرقاتي وتتفتح سموات عالمي عالمهم.
تلك الفرقة تغني أنغاما طريّة يبدو أنها لا تُطرب القلب فضلا عن السمع (لا أحد يلتفت لها)، أما أنا عن السمع معزول. إني أتحسس الأوراق بيدي، وأضم الكتب بين يدي حتى نَحري، وأقلّب الأوراق ناظرا إلى تراكب السطور، وأسمع صوت اصطفاق الورق بالطاولة الرخامية، وصوت ملامسة الأوراق لبعضها.
أنظر من خلال عينيّ اللتين غطاهما شعر الحاجبين الكث فتبدو الصور متقطعة. يقول شاب باحترام مهلهل:
-أهلا سيدي بائع الكتب، هلّا بحثت لي عن كتاب يتحدث عن حضارة "الأنكا" القديمة؟
أرفع معطفي البالي (بحركة بليغة) من على الطاولة ليظهر كتاب بعنوان "شعوب النهايات"، أنظر له (للمتحدث) ثم للكتاب ففهم مقصدي سريعا.
....
ساعات الليل أمضيها قارئًا، وأغفو بين حين وآخر، ويكون القلب هائما في طرقات تتشعب وتتفرع حتى أراني أنتقل بخفة بين كتاب وكتاب، كتاب يدلني على آخر.
...
أين أيام الوطن؟
يسأل القلب دون مجيب.
في فراغي، أتأمل لكز المطر لزجاج هذا المقهى، زجاج متقرّح؛ بادٍ عمره دون أن ينطق!
عائشة الريس
Comments