لم يعد للمنزل منذ يومين، هذه ليست عادته، دائماً ما كنا نتشاجر ولكننا نعود دون أن نشعر، دون أي اعتذار أو تبرير، هاتفه مغلق، أتساءل إن كان لا زال غاضباً مني، أم أن شراً ألم به.
الجو متقلب هذه الأيام ، موحش ، تعصف الرياح بشدة مقتلعة كل ما يعترض طريقها ، المطر مستمر بالانهمار لا يكاد يتوقف إلا نادراً ، أنا أعرفه جيداً، إنه يخشى السير وحيداً، يخشى العواصف والظلام، لم أتوقع أن يتجاوز حتى سور المنزل .
الاسم : جاكسون ويليم
تاريخ الميلاد : 10/5/1982 (20 عاماً )
الأوصاف : متوسط القامة نحيل الجسم ذو شعر كستنائي منسدل على كتفيه وعينين خضراوتين ووجنين بارزتين. شوهد آخر مرة يرتدي قميصاً سماوي اللون وسترة بيضاء وبنطالاً أسوداً.
شوهد آخر مرة: بالقرب من محطة القطار 411.
الإعلان جاهز لكني أحتاج لصورة يجب أن تكون حديثة، عجزت عن إيجاد شيء مناسب لا أجد صورة منفردة له، حتى صورنا واحدة!
صورة ملفه في الملجأ إنها قديمة بعض الشيء لكن ستفي بالغرض.
الهاتف يرن ....
- الوقت مبكر من يتصل الآن، ألو
- أهلاً سيد جاك لقد وصلنا إعلانك ، نحن سعيدون لعثورنا عليك كنا نبحث عنك طيلة الأيام الماضية.
- أهلاً أين هو جاكسون الآن أهو بخير؟
- إنه يرقد الآن بالمشفى المركزي بالعاصمة لقد وصل قبل أربعة أيام وهو في غيبوبة تامة منذ وصوله لذا واجهنا صعوبة في التعرف عليه والوصول لكم.
في العاصمة
يرقد على سرير أبيض، يتنفس بصعوبة، كان في حالة يرثى لها عند وصوله لم يتوقع أحداً صموده، لقد تلقى ضربة قوية على رأسه أفقدته وعيه.
جاكسون
بدأت أستعيد وعيي، لكني لا أرى إلا الظلام يحيطني، المكان بارد، الصمت يغلف المكان، لا أسمع سوى صوت أنفاسي، وكأنني في مقبرة، أطرافي متجمدة أعجز عن تحريك شيء منها، أشعر بألم عظيم في رأسي، صداع لا يطاق، ضعف يعتريني كلما حاول فتح عيني، لا أستطيع فعل شيء بالكاد أتنفس.
إذا لازلت على قيد الحياة ولكن من أنا وأين أنا وماذا حدث لي؟
أبصرت عيني أخيراً (جاك) أول ما وقعت عيني عليه إنه توأمي أنا أذكره جيداً.
- بابتسامة تعلوها الدموع: عزيزي جاكسون هل أنتَ بخير، خفت عليك كثيراً.
- من هذه؟ وأين أنا؟
- أنا أمك يا عزيزي، أنت في المشفى منذ أيام لقد أصبت بحادث.
سكت جاك على مضض.
لقد نسي جاكسون كل شيء حتى اسمه فقد ذاكرته ولم يتذكر سوى اسمي، كنت أسعد إنسان لحظتها وحملت أعظم هم وقتها.
خرجنا معاً للمنزل وكنت عينه وعقله وذاكرته، كان يسألني عن كل شيء كطفل صغير يتعرف على هذه الحياة، فضوله يكبر يوماً بعد يوم، حتى حجز عن إيجاد إجابات عن أسئلته، لماذا نعيش وحدنا؟ أين عشنا طفولتنا؟ كيف قضينا عطل نهاية العام؟ كيف كان شكل أبي؟ هل يشبهنا؟
بدأت أنسج خيوط القصة وهو يكملها.
حتى جاء ذاك اليوم الذي عكر صفو الحياة التي ولد فيها من جديد.
- ببرود جاكسون لقد ماتت أمي علينا الاستعداد لحضور الجنازة.
لقد تحسنت علاقة جاكسون بأمي منذ الحادث، كنت أعتصر ألماً لكني لم أقوَ على فعل شيء، كان سعيداً، وكان هذا يكفيني.
جاكسون
منذ خروجي من المشفى وأنا أكتشف حياتي، كانت ولادة جديدة لي، لا أعلم كيف كنت لأقوى على مواجهة الحياة لولا وجود جاك معي، هو قصتي ومرآتي للحياة.
جاء اليوم الذي أخبرني فيه بوفاة أمي ، انهرت باكياً كما يفعل أي شخص في موقفي، أخذني في حضنه كطفل باكٍ ربت على كتفي قوى من عزيمتي، كان صامداً كجبل، جهلت وقتها مصدر تلك القوة.
مضت الجنازة وذهبنا لبيتها نرتب ما فيه، كانت المرة الأولى التي أستطيع فيها الدخول لأي مكان دون إذن، المرة الأولى التي تجاوزنا فيها جميع الحواجز للعلية لمكتبها وغرفتها، لم ألاحظ شيئا غريباً يستدعي منها كل هذا الحرص عند زيارتنا لها، الكثير من القوانين والمحظورات.
صعدنا للعلية لنجد الكثير من الألعاب والهدايا والملابس الخاصة بالأطفال بأسماء غريبة ما هذا يا جاك؟
- لا شيء مهم إطلاقاً هيا لنذهب لغرفتها؟
- لم أستطع إلا المضي فأنا أثق به أكثر من نفسي.
- انظر لهذا جاكسون
إنها خزنة صغيرة كانت مخبأة بين الملابس الكثيرة المكدسة بلا أدني فائدة، وفي أحد الأدراج وجد جاك المفتاح في تجويف صغير.
- لقد وجدته تعال، هنا وقعت الصاعقة على كلينا كنت أعلم جزءاً من هذا لكني كذبت الكذبة وصدقتها، نسيت الماضي أو تناسيته، لكن جاكسون لا بعرف شيء عن هذا خرجت باكياً منهاراً.
- لم أدرك حقيقة الأمر في البداية رأيت الكثير من الصور وبعض الأخبار المنشورة في الجرائد لقضايا خطف واستغلال وبيع للأطفال!! وكأن ضربة هوت على رأسي، أمور كثيرة مرت أمام عينيَّ.
هرولت مسرعاً، تبعته، أمسكت به وعانقته عناقاً طويلاً تذكرت أياماً تقاسمنا شقاءها.
لكن لماذا كنت تكذب علي كل تلك المدة؟ لماذا لم تخبرني؟ لماذا جعلتني أحبها وأتقرب منها، أبكي على فراقها وأشتاق لها؟ كيف استطعت حتى تغيير مشاعري !! لماذا رسمت لي واقعاً مزيفاً وأخفيت عني حقيقتي؟ ألم نكن روحاً واحدة !!!
رمقني بنظرة كسيرة، ابتلع ريقه بصعوبة كادت روحه تخرج ، قتلني صمته ... لقد بدأنا حياة جديدة يا جاكسون .
تركته وأنا أحس بالغدر والخيانة أعلم صفاء نيته أقدر حجم خوفه علي أعلم حجم الألم الذي كان سيسببه لي لو أخبرني ولكن لم أتخيل أن يكذب علي يوماً وقد كذب علي عمراً. أبى إخباري فبدأت من جديد في البحث بنفسي.
جاك
لم أستمتع بكذبي عليه، بل كنت أتجرع مرارة الألم وحدي كل يوم، كان يصعب علي إخباره ويصعب على أكثر حمل هذا السر على كاهلي، كنت أراه يتحسن يعود للحياة بروح طفل مرحة لم أره يوما بهذه السعادة، جعلتني ضحكته وابتسامته وحبه للحياة، أكمل طريقي محاولاً التعايش دون التنغيص عليه وإن انطفأ نوري.
اليوم أدركت أن حياته طيلة الأربع أعوام الماضية كانت سراباً، عاشها وعشتها معه بواقع بعيدٍ جداً، اختلفت فيها أحلامنا وهوايتتا ومشاعرنا، نظرته للحياة اختلفت، كان يشتعل طاقةً وحماساً ويفيض حباً وعطفاً، يهيم حباً وشوقاً، أصبح عكس ما كان عليه وعكسي تماماً.
اختلفت مشاعره جداً لم يعد يكره أحداً، ولا يحمل هماً، حتى تجاه من آذوه.
الآن اختلف كل شيء عاد الماضي الكئيب وخسرنا بعضنا للمرة الأولى، كنا متشابهين أكثر من أي اختلاف، والآن نحن مختلفون أكثر من أي تشابه، لا أنتظر إلا سماع صوته وهو يقول لقد عدت إلي من جديد، لقد غفرت لك ماقد سلف، هو أقوى مني اليوم ولن يتركني .
أسماء الزهراني
Comments